القائمة الرئيسية

الصفحات

الحجاج في رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي

   


   ينتمي نص التوابع والزوابع إلى السرد العربي القديم وهي رسالة سردية تعتمد على السرد و الحوار، "يختلط فيها الضحك بالشعر والنثر، ويتداخل عالم الإنس بعالم الجن والشياطين، وترفع حواجز الزمان والمكان، ويلتقي القديم بالحديث، ويتعانق المشرق بالمغرب"[1] فهي ضرب من النثر منفرد بنوعه؛ إذ يتمازج فيه الشعر بالنثر في صورة كوميدية مضحكة، كما يحدث فيها تمازج بين عالمين متناقضين أحدهما ظاهر ويتمثل في عالم الإنس، والآخر خفي ويتمثل في عالم الجن والشياطين، وبهذه المزاوجة يصل صاحبها إلى إظهار قيم القديم، وتفجير طاقات الحديث، فتكون رسالته بمثابة حلقة الوصل التي تربط بين ثقافة المشرق والمغرب.

 أما مقامها فهو مقام حجاجي إقناعي بامتياز، وقد كتب ابن شهيد هذه الرسالة لاستعراض قدرته على الإبداع الفني، شاعرا وخطيبا وناقدا، والإشادة بأدبه، والانتقاص من أدب خصومه وحساده والطعن على أنداده ومنافسيه من الوزراء والأدباء وأهل السياسة والقلم، والمتكلم في النص هو أبو عامر أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان (ابن شهيد الأندلسي)، ووجه أبو عامر رسالته إلى أبو بكر بن حزم، و أبو القاسم الإفليلي، وأبو محمد، ومن خلالهم لعامة الناس، وقد صور فيها رحلته الخيالية إلى عالم الجن عن طريق جني اسمه زهير بن نمير، حيث التقى بتوابع الشعراء والكتاب وزوابعهم. فالتقى أصحاب امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وقيس بن الخطيم، وأصحاب بعض الشعراء العباسيين أمثال البحتري، وأبي تمام، و أبي نواس، والمتنبي. وتناشدوا الشعر وخرج من كل لقاء بشهادة الإجازة والتفوق، ثم تحول إلى مقابلة توابع الكتاب مثل الجاحظ، وعبد الحميد الكاتب، وبديع الزمان الهمداني. وأخذ يدافع عن نفسه وعن أدبه ويشتكي أهل عصره، وتنتهي تلك اللقاءات بإجازته شاعرا وخطيبا.

 صاحب الرسالة

ولد احمد بن شهيد في قرطبة سنة (382هـ 992م) كاتب من كبار الكتاب في آخر عهد الدولة الأموية، شاعر ظريف،وكاتب مبتكر من كتاب الأندلس وأدبائها.[2]

هو أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد إبن شهيد بن عيسى إبن الوضاح الأشجعي .و قد سمي أحمد على اسم جده و كنيته " أبو عامر " و قد دخلت أسرته التاريخ أول مرة حينما قاتل جده الوضاح بن رزاح في معركة مرج راهط عام 64هـ ) 648م( في صف الضحاك بن قيس القهري ضد الأمويين و مؤيديهم من بني كلب. و كان الوضاح هذا هو الجد الأكبر للأسرة التي تحمل هذا الاسم ممن يقطنون مرسية و كان من قبيلة أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان من مصر و قد وقع الوضاح في تلك المعركة أسيرا في يد مروان بن الحكم مؤسس الفرع المرواني من الأسرة الأموية التي قدر لذرية الوضاح من بعده أن تخدمها بإخلاص شديد[3]

دعوى الرسالة

لم يهتم ابن شهيد بمطالعة الكتب وإضاعة الوقت في تصفح صفحاتها لأن البيان حسب رأيه موهبة يؤتيها الله من يشاء من عباده، ومن هذه النقطة وجد خصومه ذريعة للهجوم عليه، فقال بعضهم بأن شعره لا يحترم قواعد النحو والإعراب، وقال البعض الآخر بأن شعره ما هو إلا تقليد لشعر المشارقة وقد كان لهذه الاتهامات الجارحة بالغ الأثر على نفسية ابن شهيد فأراد أن يرد على هؤلاء الخصوم برسالة يسخر فيها منهم، ويتهكم بأدبهم ولكي يشفي غليله من هؤلاء الخصوم والحساد، فقد راح يستعين بتابعه "زهير بن نمير" من أجل زيارة أدباء المشرق عله يجد عندهم التقدير والاحترام اللذان افتقدهما عند أهل بلده، فهداه خياله الخصيب إلى التحدث مع شياطين الشعراء والكتاب. وهو بهذا كأنه يريد أن يقول لأهل بلده بأنه لا يحتاج تقديرهم، واحترامهم مادام قد وجد ما يطلبه عند غيرهم ممن هم أقدر منهم موهبة، وأوسع إبداعا.

ولعل اعتداد ابن شهيد بشخصيّته وبذكائه وعلو منزلته هو سبب هذه الخصومة وهذا الموقف من المعلمين، يقول: )وقليل الالتماح من النظر يزيدني، ويسير المطالعة من الكتب يُفيدني، إذ صادف شنّ العلم طبقة ص88(مؤكداً بذلك موهبته وجريان طبعه

لقد أحس أبو عامر بالمرارة والأسى نتيجة ظلم معاصريه له، وتقصيرهم في حقه، لهذا وضع رسالته التي رسم فيها أهم هدف له هو الإطاحة بمن ظلمه من أهل بلده والسخرية منهم، إذ يذكر في رسالة "التوابع والزوابع" ثلاثة أشخاص أراد أن يفرغ ما في صدره من حقد وكره لهم، وهؤلاء هم: "أبو القاسم الإفليلي"، "أبو بكر ابن حزم"، و"أبو محمد".

   وإذا كان الهدف الرئيسي لابن شهيد هو النيل من خصومه، فإن هذا لا يعني عدم وجود أهداف أخرى ثانوية كإظهار موهبته الشعرية، ومقدرته على قول النثر، والخوض في غمار النقد رغم صعوبته.

ففي مجال الشعر نجد أن ابن شهيد قد هدف من رسالته إلى استعراض بدائعه الشعرية التي تشهد له على موهبته الفياضة، أما في مجال النثر فقد عمل ابن شهيد على معارضة بديع الزمان، وعبد الحميد الكاتب، والجاحظ، ثم معاصريه كأبي القاسم الإفليلي، وأبي إسحاق بن حمام، فكانت رسالته في قسمها الثاني معرضا استعراضيا لجميل نثره، وخاصة رسائله.

وإذا انتقلنا إلى النقد فإننا نجده يهدف من وراء رسالته إلى عرض العديد من ملاحظاته النقدية كالسرقات الشعرية، والمعارضات، وغيرها من الآراء التي تدل على أنه قد كان له هدف نقدي من وراء رسالته.

إذن فأهم دوافع ابن شهيد لتأليف رسالته "التوابع والزوابع" هي:

الرد على خصومه وذمهم وتحقيرهم والتقليل من شأنهم. ورغبته في إثبات تفوقه الأدبي. رغبته في أن يثبت تفوقه الشعري.

      وبما أن الرسالة هي ذات مقام حجاجي إقناعي، فقد اعتمد ابن شهيد على أشكال عديدة من الحجج لتقوية رأيه، لعل أبرزها:

حجة الإيتوس:

وهو "السمات الشخصية التي ينبغي للخطيب أن يظهر بها أمام السامعين (وليس مهما مدى مصداقيتها) ليترك انطباعا حسنا، إنها مظاهر، فالأمر لا يتعلق إذن بسيكولوجية تعبيرية بل سيكولوجية متخيلة"[4]. فالإيتوس إذن هو كل ما يتعلق بالخطيب سواء من حيث هيأته وخلقه، وما من شانه أن يعينه على إقناع المتلقين حتى ولم يوجد في النص ما يشير عليه،" ويركز أرسطو على كون الإيتوس جزء من الميكانيزمات التي يوظفها المتكلم لإقناع متلقيه، فالإيتوس بالنسبة إليه، هو الصورة التي تنجز في الخطاب، إنه صورة الذات التي يعطيها المتكلم من خلال خطابه"[5]

ولد ابن شهيد في فترة مزدهرة أمدته بالتفافة والعلوم في شتى المجالات، منذ نعومة أظافره، بالإضافة إلى امتيازه بقوة الذاكرة وسرعة البديهة، كما أنه كان قريبا من السلطة فقد كانت له حضوة سياسية، وحضوة علمية، هذه الحضوات استثمارها يسهم في استمالة المخاطبين، وقبول خطابه. وتظهر حضوته العلمية في النص عند قوله (كنت أيام كتاب الهجاء، أحن إلى الأدباء، وأصبو إلى تأليف الكلام، فاتبعت الدواوين، وجلست إلى الأساتيد، فنبض لي عرق الفهم، ودر لي شريان العلم...) ص88

تذاكرت يوماً مع زهير بن نمير أخبار الخطباء والشعراء... فقال لي: حللت أرض الجن أبا عامر فبمن تريد أن تبدأ؟ فقلت: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشوق ص91 ويبدو أن تقديم ابن شهيد للخطباء كان من باب تمكنه بالنثر وإجادته له وإبداعه فيه أكثر من تمكنه بالشعر فالخطباء عنده أولى بالتقديم، وهم عنده فرسان الكلام، لذلك نجده ينتزع إجازة الشاعرية من الشعراء، ليثبت تفوقه، في حين نجد الكتّاب يعترفون له بالفضل في الخطابة مسبقاً.

"فانفض الجمع والأبصار إلي ناظرة، والأعناق نحوي مائلة" ص131 يبرز نصيا الحضوة التي كان يتمتع بها، فتفاعل الإيتوس النصي بالإيتوس الخطابي.

حجة السلطة:

هي الأقوال والأفعال التي يأتي بها الخطيب للتأكيد والدفاع عن رأيه، وهي نوع من الإيتوس، ويقصد بالسلطة "سلطة المنزلة العلمية والفكرية للمرجع، الذي نسوق الكلام منسوبا إليه، أو نذكر اسمه في معرض دفاعنا عن الفكرة مدعين أنه من المناصرين لها أيضا"[6]، "وتختلف السلطة في حجة السلطة، وتتعدد تعددا كبيرا، فقد تكون الإجماع أو الرأي العام أو العلماء أو الفلاسفة أو الكهنوت أو الأنبياء.وقد تكون هذه السلط غير شخصية مثل الفيزياء، أو العقيدة، أو الدين، أو الكتاب المقدس، وقد يعمد في الحجاج بالسلطة إلى ذكر أشخاص معينين بأسمائهم على أن تكون سلطة هؤلاء جميعا معترفا بها من قبل جمهور السامعين، في المجال الذي ذكرت فيه. "[7] "وتتأسس السلطة في الحياة اليومية على الأخلاقية (إن كان هو من يقوله فإننا نصدقه) وفي السياسة تتأسس على الماضي الجاد للمترشح."[8]

 فقد يستشهد الخطيب بسلطة الآيات القرآنية التي هي عين الحقيقة واليقين من أجل التأثير في الجمهور بصحة وجهة نظره التي يعرضها في ثنايا خطبته. ويعني هذا أن أقوال الله  حجة دامغة لايمكن الطعن أو التشكيك فيها....ويمكن الحديث عن السلطة السياسية، إذا كان الخطيب رئيس دولة أو أمير أو ملك أو خليفة أو سلطان ما .فضلا عن سلطة القيم والأخلاق التي تملك حجية مجتمعية كبرى؛ بسبب عموميتها وكونيتها وسموها وتعاليها من جهة، وارتباطها بالعادات والتقاليد والأعراف والشرائع والأديان من جهة أخرى. وهذه القيم بمثابة مبادئ حجاجية كبرى راسخة في أذهان الناس ومعتقداتهم، تتسم بالمصداقية واليقين والرجحان وقوة الدليل والحجة[9] ومن أهم تجليات حجة السلطة في النص هو إجازة ابن شهيد من طرف الشعراء والأدباء.

اذهب فقد أجزتك ص 93

لله اذهب فأنت مجاز ص 95

و ما أنت إلا محسن على إساءة زمانك ص 101

قالا: إن لسجعك موضعا في القلب ومكانا من النفس وقد أغرنه من طبعك وحلاوة لفظك ص 112

 

حجة أدهومينم:

 هي السلطة المعكوسة "وهي تقوم على دحض قضية بربطها بشخصية مقيتة"[10]، أي أن نهاجم شخص الخصم بدلا مما يقوله بقصد تحويل النقاش وتوهين حجة الخصم.

تسمى العاقلة وتكنى بأم خفيف استحضار الإوزة هنا بحد ذاته تضمين ﻬكمي لمن يكني عنه ابن شهيد وحديثه الساخر عمن يعتبر نفسه من النخب الأدبية وهو أبعد ما يكون عنها، كما تتجلى في الطباق اللفظي الظاهر بين الاسم/ العاقلة والكنية/ أم خفيف والطباق المعنوي الذي يكشف أيضًا البعد بين العقلانية والطيش وخفة العقل

السخرية:

تعد السخرية أرقى أنواع الفكاهة، لأنها تحتاج إلى قدر كبير من الذكاء والمكر. ولذلك اتخذ منها الفلاسفة و الأدباء، أداة يستخدمونها في دقة لبيان رأيهم في الخرافات السائدة، أو المذاهب التي يختلفون معها ويهزأون بها، كما لجأ إليها رجال السياسة في التندر بخصومهم وما يمثلون من أفكار ومبادئ، وهي في هذه الحالة تكون أشبه باللذع الخالص الذي يكون جارحا أحيانا، ومن هذا ما يطلق عليه التهكم. وعلى الرغم مما يتبعها أحيانا في النفس من الضيق والألم، فإنها تثير الضحك عن طريق إبراز العيوب وتجسيمها والمبالغة في تصويرها.[11] وتعد السخرية من أبرز الآليات، التي ساهمت في تأليف نص التوابع والزوابع، حيث استعملها ابن شهيد ك"وسيلة للدفاع عن قناعاته في تفسير العملية الإبداعية، التي يردها إلى الموهبة تارة والإلهام تارة أخرى [12]"  وقد ساهمت في بناء النص وتكوينه، وشغلت حيزا مهما من مساحته فنجدها من بداية النص إلى نهايته.

وتتمظهر السخرية في النص في صورٍ مختلفة وأنماط متعددة، فمنها اللفظية، التي عكست أفكار الكاتب ونقده لما كان سائدا في الساحة الأدبية في عصره، وما كان يعانيه كأديب من بعض حساده ومبغضيه، ومنها السلوكية، التي كشف من خلالها الكاتب، وفضح بعض التصرفات المناقضة والمخالفة لآداب الجماعة في عصره، فأزال القناع عن تلك المظاهر الزائفة، التي يبديها البعض للناس، ويخفون ما يناقضها.

"ولم يكن كالثلج تقتبس منه نارا، ولا كالحمار يحمل أسفارا" ص88 يشبه خصومه بالحمير فهم يقرأون الكثير لكن دون فائدة. وإظهارهم كأوعية تحفظ فقط وتمرر اللغة دون أن تعي وتستفيد منها.

 

"حيائي من التحسن باسم الشعر وأنا لا أحسنه" ص98 جعل تابع الشاعر أبي تمام يسكن عين ماء للإشارة إلى تفوقه عليه والتقليل من شأنه. وإظهاره مظهر النادم والخجل من شعره وأسلوبه في نظمه، وهو أحد زعماء مدرسة الصنعة الشعرية

"جني أشمط ربعه، وارم الأنف، يتضالع في مشيته، كاسرا لطرفه زوايا لأنفه" ص 124 أطلق عليه اسما ساخرا(أنف الناقة) نظرا لصفة قبيحة في شكله، وهي ضخامة أنفه، المشبه بأنف الناقة. لتشويه صورته، وإبراز هذه الصورة في أسوء تصوير مادي

"ما أنت إلا محسن على إِساءة أهل زمانك" ص101 سخرية الكاتب من من أهل اللغة في عصره، الذين يكيلون له الحقد والحسد ويرمون أدبه، فلا يجيزونه، رغم ما يراه فيه من إجادة وعبقرية.

  أما شخصية تابع بديع الزمان الهمذاني، فوصفها بالكبر والتعالي، ثم قلبه إلى تصغير وهروب، ففي البداية يسأله ابن شهيد أن يسمعه وصفه للماء، فيجيبه:" ذلك من العقم" ص128، لكن بعد أن يعارضه ابن شهيد بوصف للماء، يدعي فيه التفوق على وصف أستاذه، يقلب تلك الصورة الأولى للأستاذ من كبر وتعال إلى هروب واختفاء، خجلا من أثر الانهزام، قائلا في ذلك "فلما انتهيت، ضرب زبدة الحقب الأرض برجله، فانفرجت  له عن مثل برهوت، وتدهدى إليها، واجتمعت عليه وغابت عينه، وانقطع أثره"128

أما تابع أبي نواس، فهو شخصية (حسين الدنان) شارب الخمرة، وقد كانت في رحلة البحث عنه إشارات ساخرة من رجال الدين في عصر ابن شهيد، الذين كان مظهرهم يخالف مخبرهم  " فأقبلت نحونا الرهابين مشددة بالزنانير، قد قبضت على العكاكيز، بيض الحواجب والّلحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مكثرين للتسبيح، عليهم هدي المسيح، قالوا: أهلا بك يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بغيتك؟ قال: حسين الدنان، قالوا إّنه لفي شرب الخمرة، منذ أيام عشرة" فهذه المظاهر التي يتصف بها رجال الدين، والتي تدل على التقوى والورع، يقابلها ويناقضها موقع تواجدهم، في دير تعبق منه روائح الخمر.

"فبقدر ما يرمي إليه ابن شهيد من سخرية إلا أن هذه السخرية تميل في مجملها إلى الحدة والخشونة، وتعكس إحساسا حارا بالغضب والنقمة لا على خصومه فحسب، بل على طائفة بأكملها من المؤدبين والمشتغلين باللغة والنحو"[13]

  عاب عليه "صاحب الجاحظ" بإكثاره من السجع في نثره، إلا أنه يبدأ في الدفاع عن نفسه بالحط من قيمة أهل بلده، قائلا: "ليس هذا أعزك الله- مني جملا بأمر السجع، وما في المماثلة والمقابلة من فضل، ولكنني عدمت ببلدي فرسان الكلام، ونهيت بعناوة أهل الزمان، وبالأحر أن أحركهم بالازدواج"

إنطاق  ابن شُهيد تابع الجاحظ بهذا الكلام، ما هو في واقع الأمر إلا خدعة وحيلة سردية ليبرر مواقفه، ويدافع عن نفسه، التي يرى فيها أهلا لأن تُمدح أدبيا،ويثنى عليها. وفي الوقت نفسه، هي مناسبة ليسخر من أهل عصره، ممن كانوا يحقدون عليه، ويحسدونه، ويهمشون أدبه، وخاصة جماعة الّلغويين. وكأن ابن شهيد يقول التابعة ما يريد أن يقوله هو عنهم من الانتفاخ الوهمي الذي يتعامل معهم اﻟﻤﺠتمع على أساسه من الاحترام الذي لا يستحقونه.

     ومما قاله في صفة الماء: "كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، له في إنائه انصباب الكوكب من سمائه، الغبن حانوته، والغم عفريته، كأنه خليط من غزل فلق، أو مخصر يضرب به من ورق ، يرفع عنك فتردى ، ويصدع 4 به قلبك فتحيا"

وما أن يسمع صاحب بديع الزمان هذا الوصف الرائع للماء حتى يأخذ في ضرب الأرض برجليه، فينفجر عنها واد، فيدخله، ثم يغيب عن الأنظار، فيضحك صاحب الجاحظ وعبد الحميد الكاتب لفعلته، والجن صاحب الإفليلي يزداد غيظا على مقدرته في هزم "زبدة الحقب" صاحب بديع الزمان الهمداني. فتتوتر لهذا النجاح الباهر أعصاب "أنف الناقة"، فيصف ابن شهيد هذا التوتر قائلا:"علت أنف الناقة كآبة وظهرت عليه مهابة، واختلط كلامه"

    إن معركة ابن شهيد مع خصومه معركة هوية أدبية، لذلك يستخدم السخرية على قاعدة خير وسيلة للدفاع الهجوم. ويتضح جليا حب ابن شهيد للتندر والسخرية، حتى أصبح أحد أيديولوجيات خطابه الأدبي، بالإضافة إلى شعوره بالنرجسية والتفوق الدائمين. 

وعندما طٌلب منه أن يحكم بين شعرين لحمار وبغل، قال إن للروث لرائحة كريهة وقد كان آنف الناقة أجدر أن يحكم في مثل هذا الشعر فقالت البغلة فهمت عنك

هنا معتمدة في الأساس على خبرة المتلقي في استدعاء المواصفات الجسدية التي وصف ﻬا أنف الناقة، الذي هو في الأساس تابعة لأحد خصوم ابن شهيد وللتعريض في هذه الشخصية اختار ابن شهيد للمبارزة حمارًا وبغلا، والصورة هنا جسدية وحسية، والحاسة الشمية تتأذى من رائحة روث الحمار، ولذلك آثر ابن شهيد على نفسه أنف الناقة في أن يحكم بينهما على سبيل الهزء، فالمنطقة التي تبدو فيها السخرية هي الإيثار، لكن عندما يكون الإيثار باتجاه قيمة وضيعة يتحول إلى سخرية، لا لأنه أجدر منه، ولكنها محاولة منه بالارتقاء بنفسه عن هذا المستوى .

الإستعارة

    يعرف الشيخ عبد القاهر الجرجاني الاستعارة بقوله:  "اعلم أن (الاستعارة) في الجملة أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي معروف تدل الشواهد على أنّه اختص به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلا غير لازم".[14] وعرفها أبو منصور الثعالبي بقوله: "إنها(الاستعارة) من سنن العرب وهي أن تستعير للشيء ما يليق به، وتضع الكلمة مستعارة له من موضع آخر كقولهم في استعارة الأعضاء لما ليس من الحيوان، رأس الأمر، ورأس المال، ووجه الأرض، وعين الماء، وحاجب الشمس، وأنف الجبل..."[15] وتحمل الاستعارة في جوهرها طاقة حجاجية لتحقيق الفاعلية الإقناعية، ويرجع الفضل في إخراج الاستعارة من حقل البلاغة التقليدية، إلى بيرلمان الذي أكسبها قوة حجاجية في مجال دراسات الحجاج، فالاستعارة الحجاجية هي "استعارة تدخل ضمن الوسائل اللغوية التي يشغلها المتكلم بقصد توجيه خطابه، وبقصد تحقيق أهدافه الحجاجية، فالاستعارة الحجاجية هي النوع الأكثر انتشارا لارتباطها بمقاصد المتكلمين وبسياقاتهم التواصلية والتخاطبية"[16]

تؤدي الاستعارة وظيفتها الحجاجية لما تتضمنه من قوة تدليلية وتأثيرية داخل الخطاب ولذلك تعد "تقنية خطابية تؤدي وظيفة حجاجيةإقناعية"[17] و يمكن اعتبار الاستعارة البديعية إقناعية إذا وظفت جمالها وسحرها بالتأثير في المتلقي، إذ يمكن اعتبار أن كل استعارة حجاجية هي استعارة جمالية لأن الحجاج لا يكون عار من الجمال، بهذا عدت من وسائل الحجاج التي يمارس المتكلم من خلالها نوعا من الضغط لإقناع المتلقي والتأثير فيه. وحجاجية الاستعارة قائمة على الإثبات والتدليل، بجعل المستعار منه دليل على إثبات صفة يدعيها المتكلم للمستعار له.

"بأبي هذا الغالي الرخيص، هذا جليد سماء الرحمة، تمخضت به فأبرزت منه زبد النعمة، يجرح باللحظ، ويذوب من اللفظ" ص 120 استعمال الاستعارة هنا للسخرية من شخصية الفقيه.

التشبيه

يعرف التشبيه على أنه " إلحاق أمر بأمر في معنى مشترك بالكاف أو نحوها"[18] من أجل غايات إبلاغية  و حجاجية ويعتبر التشبيه من أكثر الصور البلاغية المستعملة في كلام العرب، وله منزلة هامة في البلاغة العربية، "اعلم أن التشبيه هو بحر البلاغة، و أبو عذرتها، وسرها ولبابها، وإنسان مقلتها"[19]

  "التشبيه وصف الشيء بما قاربه وشاكله، من جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه"[20]

 يستعمل ابن شهيد التشبيه  كحجة تدعم رأيه وتعتق وجهة نظره بمزيد من الإقناع والإشباع الإقناعي فالتشبيه إًذا يعد من بين الصور الفنية التي تؤدي حجاجيتها بشكل فني بليغ.

"إن امتد به طلق العمر، فلا بد أن تنفث بدرر، وما أراه إلا سيحتضر بين قريحة كالجمر، وهمة تضع أخمصه على مفرق البدر" ص114 تنبأ صاحب أبي الطيب المتنبي له بمستقبل زاهر، وقريحته ستكون كالجمر

في حواره مع أنف الناقة قال له "دع عنك أنا أبو البيان" فرد عليه ابن شهيد "لاه الله ! إنما أنت كمغن وسط، لا يحسن فيطرب، ولا يسيء فيلهي." ص 125 شبهه بمغن لا يحسن الغناء للحط من قيمته.

لاشك أن هذا الوجه الأسلوبي المتمثل في الصيغ التشبيهية موسومة بحمولة حجاجية واسعة، لما تكتسبه تلك الصيغ من قدرة على إثارة الخيال  والحمل على الاقتناع بمضمونها.

استعمل ابن شهيد العديد من الأشكال الحجاجية للدفاع عن دعواه والتأكيد على أنه أديب وشاعر يستحق احترام أهل بلده .

المراجع



[1]    رياض قزيحة، الفكاهة في الأدب الأندلسي. المكتبة العصرية بيروت، ط1، 1998 ص315.

[2]  خفاجي محمد عبد المنعم، الأدب الأندلسي. التطور و التجديد، ط 1 دار الجيل بيروت لبنان ، 1992، ص612.

[3]  أحمد الجبل إيمان، المعارضات في الشعر الأندلسي ،جدار للكتاب العالمي للنشر و التوزيع، عمان الأردن ط1 2006 ص319.

[4]  بلاغة الإقناع مقاربة نظرية تطبيقية، عبد العالي قادا. المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، ط1، 2012، ص 83.

[5]  الإيتوس وبناء الهوية في الخطاب، جورجينا يوربيا، ترجمة أحمد الوظيفي. مجلة مؤمنون بلا حدود يوليو 2019.

[6]  بلاغة الإقناع مقاربة نظرية تطبيقية، عبد العالي قادا. ص 187.

[7]  عبد الله صولة، نظرية في الحجاج دراسات وتطبيقات. مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس ط1، ،2011 ، ص53.

[8]  مدخل إلى الخطابة، أوليفي روبول. ترجمة رضوان العصبة. إفريقيا الشرق 2017، ص 207.

[9]  جميل حمداوي، حجاج الاقتناع عند شاييم بيرلمان. الطبعة الأولى 2018، ص57.

[10]  مدخل إلى الخطابة أوليفيي روبول. ص 208

[11]  الفكاهة والسخرية عند حافظ ابراهيم، عبد العاطي كنوان. مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1997، ص1.

  [12] المفارقة في رسالة التوابع والزوابع دراسة نصية د. هاشم العزام. جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 16، ع 28، شوال 1424هـ ص 1023.

[13]  فوزي عيسى، الرسالة الأدبية في النثر الأندلسي، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 2002 ، ص 2

 [14]  عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط1، 2006 ،ص 39

[15] أبو منصور الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية، تح ، يسين الايوبي ، ط 3مج 1 المكتبة العصرية ، القاهرة ، مصر ، 2002 ص 413 ،412

[16]  أبو بكر العزاوي، اللغة والحجاج. العمدة في الطبع، المغرب، ط1، 2006، ، ص 108

[17]  حسن المودن، بلاغة الخطاب الإقناعي نحو تصور نسقي لبلاغة الخطاب. كنوز المعرفة، عمان الأردن، ط1 2014 ص249.

[18]  أحمد الحملاوي، زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع. تح مجدي فتحي السيد، المكتبة التوقيفية، مصر، ص89.

[19]  العلوي، الطراز. تح عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط1، 2002، ج1، ص167.

[20]  ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر و آدابه. تح محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجبل، لبنان، ط5 1981، ص 174.

تعليقات

المحتويات