تمثل كلمة تناص مفتتح إشكالية نقدية تناقش التشكيل النصي وفاعلية التلقي،
وقد نشأت نظرية التناص مدينة لجملة من النظريات الغربية أولا كما تعد مدينة كذلك
للثقافات الأخرى ومنها العربية، ففي منتصف القرن العشرين انتقل الاهتمام النقدي
والأكاديمي من العناية بالمؤلف إلى العناية بإنتاجه الأدبي، إذ استحوذ النص على جل
البحوث والدراسات الأدبية. ومن هنا نشأت النظريات النصية التي انطلقت في سياقها
نظرية التناص L’intertextualité التي
ولدت في حضن السيميائيات والبنيوية.
التناص
انطلقت الشرارة الأولى لنظرية التناص من الشكلانيين في كتابات شلوفسكي ثم باختين في دراسته لدستويفسكي دون أن يستخدم مصطلح التناص. لكن الظهور الفعلي لنظرية التناص مدين للناقدة البلغارية جوليا كرستيفا التي قامت بصياغة الرؤية المكتملة للنظرية مستخدمة لمرة الأولى مصطلح التناص في مقالاتها بمجلتي Tel quel وCritique. قامت كرستيفا بتطوير مفهوم التناص مشتقة مصادره سواء من نصوص باختين أو كتابات بورس، وقد لمعت في الغرب أسماء عدة في نظرية التناص إلى جانب باختين وكرستيفا، أمثال جيرار جينيث ، ورولان بارت، وميشيل أريفي، ومشيل ريفاتير، ومايك أنجينو الذي استعمل مصطلح التناصية لنظرية التناص.
يعرف ميشيل
ريفاتير التناص بقوله :
" إن التناص هو أن يلحظ القارئ علاقات بين عمل وأعمال أخرى سبقته أو جاءت
بعده" يعني ذلك تشكيل نص جديد من نصوص سابقة أو معاصرة بحيث يغدو خلاصة لها،
فكل منتج أو مبدع حسب رولان بارت " يكتب منطلقا من اللغة التي ورثها عن
سالفيه" هذا يعني أن المبدع يستدعي من لغته كل ما يحتاج إليه للقيام بعملية
تحويل جديدة لإنتاج نص إبداعي جديد.
إن النص هو لوحة فسيفسائية من الاقتباسات المتكاثرة والمتآلفة والمتباينة في الوقت نفسه، حيث تتفجر داخل النص نصوص متداخلة لا تعد ولا تحصى تسربت إلى داخل النص بوعي أو بدون وعي، وهكذا فإن النص ليس مغلقا ولا محصنا ضد التدخلات الهائلة التي تأتيه من كل حدب وصوب. يقودنا هذا إلى تشييد تصور دينامي للنص باعتباره ظاهرة إنتاجية ترفض كل انقلاب وتعبر اللغة من خلاله عن تفاعل بين الذات والآخر، وبينها وبين النص المقروء عبر حركة اختلافيه تبرر هذا النسق التفاعلي، مما يفسر الدينامية المستمرة لتوليد المعاني وتناسله من خلال الإستراتيجية القرائية التي تتفاعل فيها معارف القارئ القبلية ومعارف النص الجديدة، وهو ما يفرض على القارئ تنويع مداخله القرائية. النص عند جوليا كرستيفا أكثر من مجرد قول أو خطاب إنه موضوع لعديد الممارسات السيميولوجية، وعلاقته باللغة التي يصاغ بها هي علاقة إعادة توزيع تتم عن طريق التفكيك وإعادة البناء، فالمفهوم النظري للتناص عند كرستيفا يقوم على الفاعلية المتبادلة بين النصوص، حيث إن كل نص هو في آن واحد امتصاص وتحويل لنصوص أخرى فكل نص في بنيته الإنشائية هو حصيلة جملة من عمليات التفاعل بين النصوص التي تدخل نسيجه. يعد النص بذلك خلاصة لعدد لا نهائي من النصوص وهي ميزة التناص عند رولان بارث.
فميزة الأثر الأدبي هو أن يفتح أفاقا جديدة دائما لنصوص أخرى.سعت جوليا كرستيفا إلى تجاوز مفهوم البنية التي شكلت عقيدة لدى البنيويين لردح طويل من الزمن، وهذا من خلال محاولتها تغيير النظرة المركزية لفكرة النسق، فقد أبدت شكوكا كبيرة حول النص المغلق، وتهتدي كرستيفا إلى أن النص ليس نتاجا فحسب، بل يمثل مسرحا للإنتاجية حيث يتم التفاعل بين الذات المتكلمة والذات المستهلكة، أي أن النص هو ساحة للإنتاج يلتقي فيه منتج النص وقارئه ، فالنص في حالة إنتاج وسيرورة.
أنواع التناص
والتناص نوعان : تناص داخلي هو نوع من إعادة المؤلف لبعض أفكاره التي
قدمها في نصوص سابقة، وتناص
خارجي وهو حوار بين نص مع نصوص أخرى متعددة المصادر والوظائف والمستويات،
ويصعب استشفاف هذا النوع من التناص خاصة إذا كان النص مبنيا بحرفية كبيرة. أما
أشكال التناص فهي كثيرة ومتنوعة فإما أن يكون مباشرا، ومنه الاقتباس ، والتضمين،
والاستشهاد، أو غير مباشر كالتلميح والتوليد والكناية، ويستقصيي التناص عامة مادته
من مصادر مختلفة من بينها مصادر فطرية تعتمد على المخزون المعرفي والثقافي أو
مصادر معرفية كأن ينقب الباحثون عن النصوص المتأثرة داخل النص، و أبرز أنماط تلك
النصوص: النصوص العليا كالقرآن الكريم والحديث والشعر.
النص التوالدي والنص الظاهرة
للنص تصوران
كبيران الأول ثابت وهو اللغة بوصفها علامات، والثاني ديناميكي متحرك، هذا ما انتهت
إليه جوليا كرستيفا حيث ميزت بين مصطلحي النص الظاهرة le phenotexte و النص التوالدي le
genotexte فالنص التوالدي هو القاعدة التحتية التي يشار
إليها عن طريق النص الظاهرة، إنه صيغة الدلالة اللامتناهية في اللغة الطبيعية أما
النص الظاهرة هو شكل البنية التي يمكن توليدها داخل المعنى.
النص لا ينكشف إلا
في ظل علاقات سياقية بعضها يتم أفقيا على مستوى علائقي سياقي والبعض الآخر يتم
عموديا على مستوى إيحائي تداولي. ففكرة السياق تنسجم ومبدأ تعددية النص الأدبي
وكذلك ازدواجية الداخل والخارج في النص انطلاقا من مفهومي النص التوالدي والنص
الظاهرة، حيث إن النص التوالدي يشمل كل السيرورات السيميائية والرمزية التي تسبق البناء
الظاهري للنص
ختاما إن النص لا
يأتي من العدم بل هو نتيجة علاقات خارجية مع نصوص أخرى يمتصها وتمتصه.
تعليقات
إرسال تعليق
مرحبا بتعليقك