إذا كانت الممارسة النقدية التقليدية في جانب منها قد استفادت مما تقدمه المناهج الخارجية فإن البحث في الخطاب الأدبي وصلته بالنقد أضحى يستحوذ على اهتمامات دارسي اللغة والأدب منذ منتصف القرن العشرين، بفضل ما تقدمه الحقول المعرفية الجديدة كالبنيوية والتفكيكية وغيرهما من المناهج التي اهتمت بالبحث في داخل النص دون سياقاته الخارجية.
لم ينبثق المنهج البنيوي في الفكر الأدبي والنقدي في الدراسات الإنسانية فجأة، و إنما كانت له إرهاصات عديدة تخمرت عبر النصف الأول من القرن العشرين، في مجموعة من البيئات والمدارس والاتجاهات المتعددة والمتباينة مكانا وزمانا. وقد انبثق تحديدا في مجال الدراسات اللغوية، التي يعود الفضل فيها
إلى فيردناند دوسوسير، وذلك من خلال محاضراته في اللسانيات التي جمعها تلاميذه بعد
وفاته في كتاب يحمل عنوان "محاضرات في علم اللغة العام". أرسى فيها
دوسوسير مجموعة من المبادئ اللسانية الأساسية للتصور البنيوي، وحدد فيها مجموعة من
المستويات لدراسة البنية اللغوية كالمستوى الصوتي، والمستوى التركيبي، والمستوى
المعجمي، والمستوى الدلالي.
و إذا كانت المناهج السياقية تقارب الأدب من الخارج،
وتولي اهتماما بالغا للعناصر الخارجية في التحليل( الواقع، المجتمع، الدين،
الشخصية، الإديولوجيا...) فإن المنهج البنيوي يحلل النصوص باعتبارها نسقا لغويا
مغلقا. فالبنيوية تعتمد في دراستها للأدب على " النظر في العمل الأدبي في حد
ذاته بوصفه بناء متكاملا، بعيد عن أية عوامل أخرى"[1].
يهاجم البنيويون بعنف المناهج التي تعنى بدراسة إطار الأدب ومحيطه وأسبابه الخارجية، ويتهمونها بأنها تقع في شرك الشرح التعليلي في سعيها إلى تفسير النصوص الأدبية في ضوء سياقها الاجتماعي، لأنها لا تصف الأثر بالذات حين تلح على وصف العوامل الخارجية، لذلك ينطلق البنيويون من ضرورة التركيز على الجوهر الداخلي للنص الأدبي، وضرورة التعامل مع النص دون أي افتراضات سابقة من أي نوع كعلاقته بالواقع الاجتماعي أو بالحقائق الفكرية أو بالأديب وأحواله النفسية والاجتماعية لأن العمل الأدبي في نظرهم له وجود خاص وله منطقه ونظامه، أي له بنية مستقلة[2].
لفهم المقصود بالمناهج السياقية يمكنك الاطلاع على مقال المنهج التاريخي
عرف جان بياجيه البنيوية على أنها: "نسق من التحولات له قوانينه الخاصة باعتباره نسقا، علما أن من شأن هذا النسق أن يظل قائما ويزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحولات نفسها دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو أن تهيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه".[3]
فالبنيوية تنطلق من مسلمة أن البنية مكتفية بذاتها، ولا يتطلب إدراكها اللجوء إلى أي عنصر من عناصرها الغريبة عنها وعن طبيعتها، ومنه فالنص هو بنية تتكون من عناصر وهذه العناصر تخضع لقوانين تركيبية تشد أجزاء الكيان الأدبي. فلم " يبق النص مع البنيوية منتوجا للمؤلف، ولكنه صار عملية
إنتاجية يتم التركيز فيها على الدال بدل المدلول، وأدى التحليل الجزئي الذي انتهجه
إلى التعامل مع مختلف عناصره ومكوناته ووحداته من أصغرها إلى أكبرها. وقد سمح لها
المستوى التحليلي الذي تميزت به إلى جعل النظام الخطي للنص موضع استفهام، وذلك على
اعتبار أن دالا ما يحيل على آخر وفق سلسلة من التركيبات والوحدات الشذرية
المتشضية. وكان هذا المستوى يتيح إمكان النظر في احتمالات دلالية متعددة لم يكن
يحلم بها الكاتب، أو يتوقعها."[4]
يعتبر كل من كلود ليفي ستروس، ورومان جاكبسون. أول من طبق البنيوية اللسانية على النص الأدبي، وذلك على قصيدة "القطط" ل"شارل بودلير"، وبعدهما ستطبق البنيوية على السرد مع رولان بارت، وكلود بريمون، وتزفيتان تودوروف، وجيرار جينيت. أما على المستوى العربي فلم تظهر البنيوية إلا في أواخر الستينات وبداية السبعينات، فكانت البداية عبارة عن كتب مترجمة و مؤلفات تعريفية للبنيوية لصلاح فضل، فؤاد زكريا، عبد السلام المسدي، تمام حسان، حسين الواد، كمال أبو ديب، محمد برادة...أما على مستوى التطبيق فيمكن أن نذكر كل من محمد مفتاح، عبد الفتاح كيليطو، يمنى العيد، سيزا قاسم، سعيد يقطين، عبد الله الغدامي.
وتقوم البنيوية على النزوع إلى الشكلانية، رفض التاريخ
والمؤلف، ورفض المرجعية الاجتماعية.
[1] نبيلة ابراهيم، نقد
الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة. مكتبة غريب، القاهرة ص44.
[2] شكري عزيز الماضي، في نظرية الأدب. دار الحداثة للطباعة والنشر
والتوزيع، بيروت ط1، 1986، ص181.
[3] جان بیاجیه،
البنیویة.
منشورات عویدات، بیروت، لبنان. ط 4، 1985 ، ص 09.
[4] سعيد يقطين، من النص إلى
النص المترابط. مجلة عالم الفكر، الكويت ، المجلد32، 2003 ص 77.78.
تعليقات
إرسال تعليق
مرحبا بتعليقك