القائمة الرئيسية

الصفحات

العلاقة بين المنطق والنحو في مقابسة أبو حيان التوحيدي

 

أقر أبو سعيد السيرافي النحوي في المناظرة الشهيرة التي جمعته بأبي بشر متى بن يونس في بغداد سنة 326 ه بأن النحو العربي له منطقه الداخلي الذي يحكمه، وهو غير المنطق الذي قامت عليه اليونانية، فمنطق اليونانية واضعه يوناني، على لغة أهل اليونان واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه من رسومها وصفاتها وطريقتها فالتعبير، أما النحو العربي فهو منطق ولكنه مسلوخ من العربية وفق معطياتها اللغوية ومستوياتها التعبيرية. فكل من النحو العربي والمنطق الأرسطي منهج في تفكير أمة مغايرة لأخرى وتحليل لسليقة لغوية تباين سليقة أخرى.



أما أبو نصر الفارابي المتوفى سنة ) 339 ه(يؤكد في كتاباته الفلسفية والمنطقية على أن هناك علاقة بين المنطق والنحو، تبدو في أوجه شبه وأوجه اختلاف، فمن أوجه الشبه بينهما، قوله "وصناعة المنطق تناسب صناعة النحو ، ذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلي اللسان والألفاظ ، فكل ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات "[1] ومن أوجه الاختلاف بينهما خصوصية قوانين النحو واقتصارها على لسان العرب،

فلكل لغة نحوها ، وعمومية قوانين المنطق المشترك بين عقول الناس جميعا يقول الفارابي" وهو أي المنطق ، يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطي من قوانين الألفاظ ، ويفارقه في أن علم النحو إنما يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم المنطق يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها، فإن هذه الألفاظ أحولا تشترك فيها جميع الأمم، خاصة أن الألفاظ منها مفردة ، ومنها مركبة، والمفردة اسم وكلمة وأداة ، وأن منها ما هي موزونة وغير موزونة وأشباه ذلك"

ويتضح لنا من خلال نص المقابسة الثانية والعشرون، )فيما بين المنطق والنحو من مناسبة( من كتابه المقابسات. أن أبا حيان التوحيدي )ت 400 ه( مقتنع بأن العلاقة التي تربط بين النحو والمنطق هي علاقة تفاعل وتكامل، وتظهر في هذا النص رؤيته التكاملية للعلمين. وقد حدد الصورة التي ينبغي أن يكون عليها كل من المنطقي ا ولنحوي. ونستطيع فهم أوجه الالتقاء بين المنطق والنحو، التي يبدو أن أبا حيان مقتنع بها، ونقلها عن أستاذه أبي سليمان السجستاني )ت 391 ه(، وذكرها في مقابساته، إذ يقول: "النحو منطق عربي والمنطق نحو عقلي" كما يرى أن النحو يساعد المنطق، والمنطق يساعد النحو، " واذا اجتمع المنطق العقلي والمنطق الحسي فهو الغاية والكمال"، فكل من النحو والمنطق أداة تحقق السلامة من الأخطاء كل منهما في مجاله الخاص به، فالنحو يضبط الحرف لضبط الكلام، والمنطق يضبط الكلام لضبط الفكرة، و هو "علم قوانين الفكر، العلم الذي تعصم مراعاته الذهن من الخطأ في التفكير[2]". كما يشتركان في الوظيفة، فالمنطق يقوم المعنى لذلك ينظر المنطقي فيما حلاه العقل دون الإخلال بالألفاظ التي هي كالحُلل والمعارض" اولنحو يرتب اللفظ لذلك "ينظر النحوي فيما حلاه اللفظ دون الإخلال بالمعاني التي هي كالحقائق والجواهر"، النحو يتحكم في بناء الكلام وسلامته من الأخطاء، أما المنطق فهو "آلة" يقع بها الفصل والتمييز بين ما يقال هو حق أو باطل في ما يعتقد وبين ما يقال هو خير أو شر في ما يفعل وبين ما يقال هو صدق أو كذب في ما يطلق باللسان وبين ما يقال هو حسن أو قبيح بالعقل". ويقوم كل منهما بتحقيق المعنى فالنحو يحققه باللفظ والمنطق يحققه بالعقل، فالنحو هو إخراج المعاني للواقع على شكل ألفاظ، والمنطق هو التفكر في هذه المعاني بالعقل. غير أن "النحو يرتب اللفظ ترتيبا يؤدي إلى المعنى المعروف أو إلى العادة الجارية" في حين أن "المنطق يرتب المعنى ترتيبا يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة"، وذلك عائد إلى كون دليل النحو هو دليل طباعي، فالنحو شكل سمعي، والى كون دليل المنطق دليل عقلي، فالمنطق شكل عقلي، فالبرهان المنطقي مأخوذ من العقل في حين أن شهادة النحو طباعية مأخوذة من عادات العرب، لذلك، فإن النحو هو علم "مقصور" على أمة ما في حين أن المنطق علم "مبسوط"، فالمنطق خاص بالفرد وما في نفسه، أما النحو فهو مشترك بين جماعة لغوية. النحو قد يعتريه الاختلاف وذلك ا رجع إلى كون "النحو يتبع ما في طبائع العرب " والطبائع تختلف وتتغير فهي مرتبطة بالأهواء. أما المنطق، "يتبع ما في غرائز النفوس وهو مستمرٌ على الائتلاف" أي أن المنطق مكانه النفس، ومرتبط بالعقل، لذلك فهو يوزن بمي ا زن العقل لأن "العقل أشدٌ انتظاما للمنطق". أما النحو فلأنه ينظر في الألفاظ فهو "أشد التحاما بالطبع" إذ هو مرتبط بالعرف، يتبع ما في طبائع العرب.

انتهى التوحيدي في مناقشته مع أبي سليمان، حول العلاقة بين المنطق والنحو، أن بينهما نقط اختلاف وائتلاف، فهما يختلفان في "عمومية المنطق في كل أمه وفي كل عصر ، وخصوصية النحو بمعنى أن لكل أمه نحوها الذي يعتمد على طباع أهلها وسماعها وعاداتها في التعبير عن ذاتها، كما أدركوا أيضا أن المنطق والنحو يختلفان في مصدرهما، فمصدر النحو العربي لسان العرب وعاداتهم اللغوية، ومصدر المنطق هو العقل بتصوراته الأولى وما هو مشترك بين الناس جميعا ، كما أدركوا أيضا أن النحو قد يتغير وبعض الألفاظ والتراكيب قد تتغير، بينما المعاني والمفهومات والمبادئ التي يبحثها المنطق فثابتة"[3]. إلا أنه رغم الفوا رق القائمة بينهما، فالمنطق والنحو يكملان بعضهما البعض، "فالنحو يدخل المنطق لكن مرتبا له والمنطق يدخل النحو لكن محققا له" بمعنى أن النحو يزين المنطق لأنه ترتيب للألفاظ والمنطق يُحقق النحو، لأن المنطق ترتيب للمعاني، والألفاظ هي قوالب للمعاني. واللفظ متى زال، فإن "المعنى بحاله لا يزول ولا يحول" وان كان زوال المعنى من شأنه أن يُغير المعقول ويرجع إلى غير ما هو عليه في الأول.__



[1]   الفارابي :إحصاء العلوم ، تحقیق د .عثمان أمین ، دار الفكر العربي ط 2، القاهرة ، 1949 ، ص 13

[2]  درية عبد الرحيم، جهود علماء النفس في الدرس اللغوي الحديث. رسالة ماجستير، جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، جمهورية السودان. 2004 ، ص 55

[3]  محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة . دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، بيروت ، 1958 ، ص 183.

 

تعليقات

المحتويات