اعتباطية العلامة اللسانية L’arbitraire du signe linguistique
"وهكذا فإن المتصور الذهني (أخت) لا تربطه أي علاقة داخلية بتتابع الأصوات التالي: (الهمزة والضمة والخاء والتاء والتنوين) الذي يقوم له دالا ومن الممكن أن تمثله أية مجموعة أخرى من الأصوات"[1] ويقول شكسبير " إن ما نسميه وردة ستبقى رائحته زكية أيا كان اسمه"[2]، كما أن الفوارق الموجودة في تسمية الأشياء بين اللغات، واختلاف اللغات نفسه يؤكد مبدأ الاعتباطية بين الدال والمدلول. فالعربية مثلا تستعمل كلمة شمس و يقابله في الفرنسية كلمة Soleil و في الإنجليزية Sun. فلو كانت العلاقة بين الدال والمدلول طبيعية وتفرضها الأشياء لكانت لغة البشر واحدة.
وفي معرض تحليله لمفهوم الاعتباطية أشار دوسوسير لملاحظة تحول دون تأويل كلامه تأويلا خاطئا وهي: أن الاعتباطية لا تعني أن المتكلم له الحق في اختيار أي دال يحلو له للدلالة على المدلول، بل تعني أن الدال اعتباطي بالنسبة للمدلول وليس بينهما رابط طبيعي، يقول سوسير" فلا ينبغي أن يفهم من كلمة اعتباطي أن الدال خاضع لمحض اختيار المتكلم، فليس بوسع الفرد أن يلحق أي تغير بدليل قد اتفقت عليه مجموعة لغوية ما. إنما تعني أن الدال أمر غير مبرر أي أنه اعتباطي بالنسبة إلى المدلول وليس له به أي رابط طبيعي موجود في الواقع"[3]
ومعنى هذا أن
الإنسان يتمكن من الوصول إلى المعنى الذي تحمله الأصوات عن طريق الاتفاق و التواضع
بين أفراد الجماعة اللغوية. وعليه فإن النواة التصورية لمفهوم اعتباطية العلامة
عند دوسوسير، تكمن في الواقع في حقيقتها التواضعية.
وأشار سوسير
إلى اعتراض يلجأ إليه البعض لنقد مبدأ الاعتباطية في الأصوات المحاكيةLes onomatopées فقال "إن اختيار الدال ليس دائما اعتباطيا، وهذه العناصر
ليست أبدا عناصر عضوية في النظام اللغوي، فعددها أقل بكثير مما نعتقد، مثل كلمات
سوط Fouet و صور Glas قد تقرع بعض الآذان بجرس موح لكن يكفي أن نعود إلى أصلها
في اللاتينية لنعلم أن هذه الميزة ليست متأصلة فيها فكلمة Fouet مشتقة من من Fagus
أي (شجر الزان أو خشبه)، وكلمة glas مشتقة من
Classicum أي (الصور) ثم إن خصائصها الصوتية الحالية أو بالأحرى ما ننسبه
إليها من تلك الخصائص، إنما هو نتيجة عرضية عفوية لتطورها الصوتي، أما الكلمات
المحاكية للصوت الحقيقية مثل ( glou glou و tic tac و غرغر و بق بق إلخ ...)
فليست قليلة العدد فحسب، بل إن اختيارها أمر اعتباطي بمقدار. إذ أنها ليست سوى
محاكاة تقريبية وبالتالي شبه تواضعية لبعض الأصوات أما صيغ التعجب فهي قريبة من
الكلمات المحاكية للصوت فهي ليست سوى وسائل تعبيرية عن الواقع تمليها علينا
الطبيعة، مما يجعل أن ننفي وجود رابط ضروري بين الدال والمدلول بالنسبة
لمعظمها"[4].
وقد أثار
مبدأ اعتباطية العلامة اللسانية ردود أفعال كثيرة بين مؤيد ومعارض، وأهمها
الاعتراض الذي جاء به اللساني الفرنسي إميل بنفينيست والذي يرى أن العلاقة بين
الدال والمدلول ليست اعتباطية بل هي ضرورية، أما العلاقة الاعتباطية فهي موجودة
بين العلامة والمرجع الذي تحيل عليه في الواقع.
بنفينيست لا يرى أن الاعتباطية تقع بين الدال والمدلول،
بل بين العلامة بحديها الدال والمدلول من جهة، وما تشير إليه من جهة أخرى .
وحسب بنفينيست فإن دوسوسير حين يقارن بين الكلمة
الفرنسية Bof ونظيرتها الألمانية Oks (ثور)،
يُقر أنهما مختلفتان على مستوى الدال، رغم أنهما تحيلان على الشيء نفسه في العالم
الخارجي.[6]
فهذا الاستدلال خاطئ حسب بنفينيست لأنه جعل دوسوسير يلجأ إلى مصطلح ثالث وهو المرجع، الذي كان قد أبعده عندما تحدث عن الدال والمدلول.
ويرى بنفنيست
أن كلمة ثور تستحضر في أذهاننا دائما الحيوان العشبي ولا شيء غيره، فقد أصبح اللفظ
يطابق ذات الشيء في العالم الخارجي، عندما نقول مسطرة فلأنها تسطر ، و محفظة لأنها
تحفظ الأدوات.، و كذلك اللفظ مربع لأنه يتكون من أربعة أضلاع، و دائرة لأنها
دائرية. فكل لفظ يعكس طبيعة الشيء ويعبر عن هويته ولم يوضع بطريقة عشوائية. عندما
يستقبل الذهن كلمة مجهولة يرفضها باعتبارها غريبة لا تحدث أي تصور يوحي بأي معنى.
فلو كانت العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية لاستحدث كل فرد لغته الخاصة.
وبالطبع لا
يعني مبدأ الاعتباطية، أن شكل الكلمة عرضي أو عشوائي، الإشارة غير محددة من خارج
اللغة، لكنها محددة من داخلها. على سبيل المثال يجب أن تتشكل الدالات من ضروب مزج
صوتية حسنة التأليف، تتطابق مع الأنماط الموجودة في اللغة المعينة، أضف أنه يمكننا
أن نعي أن كلمة مركبة ك (مفك براغ) ليست
اعتباطية تماما، لأنها تجمع من حيث المعنى بين إشارتين موجودتين[7].
وينتهي
بنفينيست إلى القول بأن العلاقة بين الدال والمدلول لازمة في وعي المتكلم، وهذا لا
يعني لزومها في حقيقة الأمر، ويكفي أن يكون في مقدور هذا المتكلم تغيير هذه
العلاقة -على مر الزمن- حتى يكون في ذلك الدليل على اعتباطيتها ولذلك فإن العلاقة
اعتباطية في نشأتها ولئن اكتسبت سمة الضرورة في ذهن المتكلم، فغن هذه الضرورة
نفسها ليست ضرورية، بمعنى أنه يمكن لهذا المتكلم أن يغير هذه العلاقة كأن يعبر عن
المدلول القديم بدال جديد، وأن يحمل الدال القديم مدلولا جديدا[8].
ومن
الذين يرفضون أيضا فكرة الاعتباطية وينتصرون للقول بالمناسبة الطبيعية بين الألفاظ
ودلالتها هو اللغوي جسبرسن حيث استشهد بما تحفل به اللغات من الألفاظ التي تعد
أصداء لأصوات الطبيعة كالخرير والأزيز و الصرير وقد جمع عددا كبيرا من الشواهد
للدلالة على العلاقة التي تربط بعض الألفاظ ببعض المعاني فهو يقول مثلا : أن
الحركة (i) قد هيئت بصفة خاصة للتعبير عن الصغر و القلة مثل الكلمات Kid , Slim ,litlle.
لكن ليس صعبا أن
نورد أمثلة تخالف ما انتهى إليه جسبرسن فكلمة big
مثلا تتضمن (i) وتدل على الكبر و كلمة small تدل على الصغر ولا تتضمن
الكسرة[9].
و استنادا لما سبق قد
يظن البعض أن اللغة مجرد عملية تسمية Nomenclature:
سلسلة من الأسماء اختيرت عشوائيا ونسبت إلى مجموعة من الموضوعات أو من المفاهيم.
فلو كانت اللغة بهذه البساطة لكان من السهل على المرء
الترجمة من لغة إلى أخرى، وأن يستبدل مباشرة الإسم الفرنسي الذي يشير للمفهوم
بالإسم الإنجليزي الذي يشير إليه. ولكان تعلم لغة جديدة اسهل بكثير مما هو عليه في
الواقع، ومع ذلك فإن أي شخص يحاول الترجمة من لغة إلى أخرى، ويحاول تعلم لغة
جديدة، يُدرك وبالملموس أن اللغات ليست مجردة تسميات، وأن المفاهيم والمدلولات
تختلف كلما انتقلنا من لغة إلى أخرى. فالكلمة الفرنسية (aimer)
لا تدرج حرفيا في الإنجليزية و على المرء الاختيار بين (to like)
و (to love)، وتتضمن الكلمة الفرنسية (démarrer)
إحدى الأفكار التي تعبر الإنجليزية عنها ب (moving off) و (accelerating)، وتغطي
الكلمة الإنجليزية (to know) الدائرة الدلالية التي تتضمنها الكلمتان الفرنسيتان (connaitre) و (savoir) و ما تطلق عليه
الإنجليزية أزرق فاتح (light blue) و أزرق غامق (dark blue) و تعدهما ضلين لأحد الألوان المستقلة يعدان في الروسية لونين
متمايزين، فكل لغة تصنف الموضوع الخارجي وتبنيه بشكل مختلف، واللغات لا تسمي
الفئات الموجودة فحسب إنما تبنيها حسب هواها و
بكامل حريتها[10].
ومجمل القول
أن العلاقة بين الدال والمدلول، هي علاقة اعتباطية غير مبررة وتتمثل هذه
الاعتباطية في العلاقة العرفية بين العلامة اللسانية وما تشير إليه، فهي تعتمد على
المواضعة الاجتماعية، وليس على العلاقة الطبيعية، وتعد اعتباطية العلامة اللسانية
خاصية من خواص اللغة، إلا في حالة الأصوات المحاكية فقد تخرج عن الاعتباطية لأنها
تحاكي في نطقها الصوت المقصود. فاللغة هي نظام من العلامات اللسانية الاعتباطية
التي يتم من خلالها التواصل بين أفراد الجماعة اللغوية.
[1] فردناند دي سوسير، دروس في الألسنية العامة. ص
112
[2] عن دانيال تشاندلر، أسس السيميائية. ص 60.
[3] فردناند دي سوسير، دروس في الألسنية العامة ص
113
[4] نفسه ص113 114
[5] أنظر: أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات.1996: دمشق دار
الفكر المعاصر. ط1 ص 289 290.
[6] مصطفى غلفان، في اللسانيات العامة. ص 236
[7] دانيال تشاندلر، أسس السيميائية. ص 65.
[8] نور الهدى لوشن، مباحث في علم الدلالة ومناهج
البحث اللغوي.2008 المكتب الجامعي الحديث ص 325.
[9] محمود عبد العزيز، مدخل إلى اللغة.1996 الكويت:
دار الكتاب الجامعي ط3 ص 104.
[10] جوناثان كللر، فردينان دوسوسير. تأصيل علم اللغة
الحديث وعلم العلامات. ص7.
تعليقات
إرسال تعليق
مرحبا بتعليقك