يمثل هايدغر محطة
أساسية في تاريخ الفكر الهرمنيوطيقي وذلك لأنه لم يعد يهتم بتأويل النصوص وحدها بل
تجاوزها لتأويل الوجود. فقد انصب اهتمام هايدغر في هرمنيوطيقيته الفلسفية على فلسفة
الوجود الإنساني في العالم، وقد اختلف في تصوره للفهم مع الفلاسفة الذين سبقوه حيث
انتقل من فهم النصوص وفهم العلوم الإنسانية إلى فهم الوجود، فالفهم عند هايدغر
يرتكز على فهم الوجود الإنساني وعلاقته باعالم الذي يعيش فيه، إذ هو مرتبط ارتباطا
ضروريا بالوجود، فلا يمكن للموجود أن يوجد دون فهمه لممكنات وجوده وتحقيقها في
العالم الذي يوجد فيه.
وتحقيق الوجود في
العالم لا يكتمل إلا من خلال الفهم، هذا الفهم لا يختص بفهم الذات فقط وإنما يمتد
إلى فهم العالم وفهم الآخر أي الموجود الذي تصادفه في هذا العالم وذلك للوصول لفهم
الوجود العام، فالوجود عند هايدغر يتحدد بثلاثة أبعاد هي:
1 الوجود في
العالم: العالم ليس فقط الجوانب الفيزيائية بل أيضا هو التاريخ والعادات والتقاليد
وغيرها.
2 الوجود مع
الآخرين: الآخرون ليسوا فقط العائلة هم أيضا خصوم و أعداء لهذا نحتاج لتأويل
تصرفاتهم.
3 الوجود من أجل
الموت: الإنسان يعرف أن وجوده متناه وعابر.
انفتح فكر هايدغر
على اللغة والشعر والفن أيضا كدرب جديد للكشف عن حقيقة الوجود، وبهذا فإن هايدغر
وسع من نطاق تأويليته حيث أصبحت تشمل تأويل النصوص بعدما كان مقتصرا على فهم
الوجود، فالنص هو تعبير عن عالم معين وهو تجسيد للقول الذي يعبر عن الوجود بواسطة
اللغة، وبالتالي فهو يظهر حقيقة مخفية لا نصل إليها إلا من خلال قراءة وتأويل وفهم
هذا النص الذي يجب أن يكون كثيفا معنويا. كما أن هايدغر حاول الكشف عن الجانب
المتخفي في العمل الفني انطلاقا من البحث في أصله للوصول لحقيقته وماهيته، فالعمل
الفني ليس شيئا خارجا عن الوجود ولا متعاليا عنه، وإنما هو مرتبط بالفنان ولا يمكن
فصلهما عن بعض، فالفنان هو أصل العمل الفني والعمل الفني هو جوهر وماهية الفنان،
ومن خلال العمل الفني يعبر الفنان عن الوجود. وهايدغر من خلال تأمله في لوحة
الحذاء لفان غوخ رأى بأنها عبرت عن حالة الموجود وأظهرت عالمه الذي يعيش فيه.
نستنتج ان العمل
الفني أيضا يخفي حقيقة تحتاج للكشف عنها استعمال التأويل، فاللوحات الفنية ليست
فقط مظهرا جميلا وإنما هي حقيقة وجودية متخفية. وللتأويل عند هايدغر قوانين، فلا
تؤول إلا النصوص التي بلغ أصحابها مبلغا كبيرا ويجب الإصغاء لصوت النص ومعناه لذاته في ذاته دون
التوسل بأدوات جاهزة قد تكون مانعا أكثر من أن تكون دافعا، والنفاذ إلى لغة النص
في ارتباطها بحقيقة الوجود فالشاعر وهو يبدع أشعاره يعرض لنا تصورا للوجود، ثم
أخيرا عيش التجربة الوجودية أو التقمص: تقمص التجربة الوجودية للشاعر .
ختاما يمكن أن
نخلص إلى أن مفهوم الهرمنيوطيقا اختلف
باختلاف الاتجاهات والنظريات التي اهتمت بتأويل النص وتفسيره ، وهذا من خلا التطور
التاريخي للمفهوم ومنه يمكن القول أن المفهوم مرت بثلاث مراحل رئيسية تاريخية، وهي
المرحلة الكلاسيكية القديمة حيث كانت الهرمنيوطيقا منهجا لتفسير النص الديني، ثم
مرحلة الهرمنيوطيقا العامة مع شلايرمخر الذي وسع مجال اشتغالها من النص المقدس إلى
كافة النصوص ثم المرحلة الفلسفية مع هايدغر التي تبحث في حقيقة الوجود وآخرون آتوا
بعده أمثال تلميذه غدمير وكذلك إسهامات بول ريكور.
تعليقات
إرسال تعليق
مرحبا بتعليقك